شارع الثقافة

مسرحية البوسطاجي  او درامية الذكرى والوجيعة والانهيار

*بقلم: الاستاذ بلقاسم بن جابر
بعد طول غياب عاد السيد صالح الصويعي المرزوقي الى بيته الأول مراكما تجارب مسرحية واحتفالية وكرنفالية وحساسية جمالية متعددة من فنون الخط والرسم والكوريغرافيا وبذلك نفهم كيف أحدث بموارده الذاتية دارا للفنون بمدينة تربض على تخوم الصحراء ليستمد من أمه الكبرى أدفاق الجمال التي لا تعد ولا تحد
وكان انهماك السيد صالح الصويعي في مسرحة الذاكرة سببا لانشغاله بفن الحكواتي ذلك الفن المسرحي الصعب الأصيل ولاشك ان من استغرق تلك الشفاهية المتدفقة الباحثة عن كسر الجدار وجدانيا وتقبليا  لن ينسلخ منها بسهولة في أي عمل درامي كلاسيكي أو تجريبي على خشبة المسارح
ومن هذا الكون الجمالي الرحب ولدت مسرحية البوسطاجي ولادة غير قيصرية
ذهبنا لنشاهد البوسطاجي ونحن نخشى من صدمة المكاشفة التراجيدية  فإذا بجابر يجبر كسرنا عبر إعادتنا إلى محور الزمن ذلك البعد الذي لا يبرحنا …كان العم جابر محتفظا بكل التفاصيل التي أضعناها في زمن العولمة والانكسارات والخواء العاطفي وضياع القيم وغياب المعنى
لقد عمل المبدع صالح الصويعي على استدراجنا عبر “النوستالجيا ” ليتخذ من الحنين تراجيديا وجدانية لا تحتفل بالحدث الدرامي بقدر ما تستبطنه ولذا انشد الجمهور إلى النص والديكور والحكاية طيلة نحو ساعتين علهم يعثرون على حدث درامي يهزهم فراوغهم الحدث ليتجلى في النهاية الحبلى ولكن بعد أن تقمصوا كل اللحظات والمحطات التي اراد جابر البوسطاجي أن يعيدهم اليها قسرا بعد ان تاهوا في العولمة وتوهموا أنهم فقدوا صلتهم بالرسائل الحميمة وبمعرفتهم ببعضهم وبعلاقاتهم الواقعية والعاطفية والاجتماعية والإنسانية

ولأمر ما كان الصندوق العتيق الذي يحتل مكانا بارزا من الركح شاهدا وشهيدا انه محمل الحكايات والغرام والخبرات والتراث والحكمة والزمن لم يفتحه البطل جابر لأنه أراد أن يبقى حافظا لذاكرة مثل كبسولة تحمل زمنا حالما جميلا الى زمن الضياع
العم جابر البوسطاجي مخزن الأحداث الوطنية وخزينة الأسرار الإنسانية هو محور التوهج الذي عاد إلينا بعد عشرين عاما من تقاعده ثائرا قلقا محتفظا بشخصيته الاعتبارية وسلطته المعنوية رافضا للموت التقاعدي والتعاقدي  لينشر لنا ما أردنا طيه او تجاوزه آو إرغامه على النسيان
لن نرغم العم جابر على ان يكون نفسه صالح الصويعي الفنان المبدع المتألق الذي صنع مجدا تليدا بعبقريته الفنية المتعددة ومواهبه وكفاحه في العدوتين الشمالية والجنوبية ولكن شيئا من جابر يسكن في مخيلة المبدع نصا وتمثيلا هو تلك الثورة على نسيان كل أصيل وهو إعادة الناس إلى مراشدهم والى الثوابت الجوهرية فيهم هو الثورة على قتل الجمال والإبداع والقيمة والوطن ذلك إن الثورة الحقيقية هي الثورة على الرداءة والعقوق والقبح الثورة على النسيان والفناء في السديم
عندما  تشاهد البوسطاجي  ستعلم أنك زرت طبيبا للنفس والقلب يفتح بمبضعه الدقيق باطنك العميق ليحيي كل ما يجب إحياؤه لتعود إنسانا سويٍّا متماثلا مع ذاتك وتاريخك ووجودك
المنستير في 24سبتمبر2022
*باحث في التراث الشعبي والأدب العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى